{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }
وقوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ...}
هذه الهاء لنوح: و(هدينا) من ذرِّيتِه داود وسليمان. ولو رفع داود وسليمان على هذا المعنى إذ لم يظهر الفعل كان صوابا؛ كما تقول: أخذت صدقاتِهِم لكل مائة (شاةٍ شاةً) وشاةٌ.
{ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ }
وقوله: {وَالْيَسَعَ...}
يشدّد أصحاب عبدالله اللام، وهى أشبه بأسماء العجم من الذين يقولون (والْيَسَعَ) لا تكاد العرب تدخل الألف واللام فيما لا يُجْرى؛ مثل يزيد ويعمر إلا فى شعر؛ أنشد بعضهم:
وَجَدْنا الوليد بن اليزيد مباركا * شديدا بأَحْنَاء الخِلافةِ كاهِله
وإنما أَدخل فى يزيد الألف واللام لمَّا أدخلها فى الوليد. والعرب إذا فعلت ذلك فقد أمسَّت الحرف مدحا.
{ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ }
وقوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء...}
يعنى أهل مكَّة {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً} يعنى أهل المدينة {لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} بالآية.
{ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }
وقوله: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ...}
ما عظَّموه حقّ تعظيمه. وقوله {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} يقول: كيف قلتم: لم يُنزل الله على بشر من شىء وقد أنزلت التوراة على موسى {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} والقِرطاس فى هذا الموضع صحيفة. وكذلك قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فى قِرْطَاسٍ} يعنى: فى صحيفة.
{تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} يقول: تبدون ما تحبون، وتكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أُمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول {قُلِ اللَّهُ} أى: أنزله الله عليكم. وإن شئت قلت: قل (هو) الله. وقد يكون قوله {قُلِ اللَّهُ} جوابا لقوله: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى}, {قُلِ اللَّهُ} أنزله. وإنما اخترت رفع {اللَّهُ} بغير الجواب لأن الله تبارك وتعالى الذى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يسألهم: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ} وليست بمسألة منهم فيجابوا، ولكنه جاز لانه استفهام، والاستفهام يكون له جواب.
وقوله: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} لو كانت جزما لكان صوابا؛ كما قال {ذَرْهُمْ يأكُلُوا وَيَتَمتّعُوا}.
{ وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ }
وقوله: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى...}
يقال فى التفسير: إنّ أمّ القرى مَكَّة.
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} الهاء تكون لمحمد صلى الله عليه وسلم وللتنزيل.
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }
وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً...}
يقال: إنها نزلت فى مسيلمة الكذَّاب، وذلك أنه ادّعى النبوّة.
{وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ} ومن فى موضع خفض. يريد: ومن أظلم من هذا ومن هذا الذى قال: سأنزل مثل ما أنزل الله. نزلت فى عبدالله بن سعد بن أبى سَرْح. وذلك أنه كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال النبى صلى الله عليه وسلم: {وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمُ} كتب (سميع عليم) أو (عزيزحكيم) فيقول له النبى صلى الله عليه وسلم: سواء؛ حتى أملَّ عليه قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} فقال ابن أبى سَرْح {فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} تعجُّبا من تفصيل خَلْق الإنسان, قال فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزِلتْ علىّ، فشكَّ وارتدّ. وقال: لئن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا لقد أوحى إلىّ (كما أوحى إليه) ولئن كان كاذبا لقد قلتُ مثل ما قال، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ}.
وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} ويقال: باسطو أيديهم بإخراج أنفس الكفار. وهو مثل قوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} ولو كانت (باسطون) كانت (أيدِيَهُمْ) ولو كانت "باسطو أيديهم أن أخرِجوا" كان صوابا. مثله مما تركت فيه أن قوله: {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهدَى ائْتِنَا} وإذا طرحت من مثل هذا الكلام (أن) ففيه القول مُضمَرٌ كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يقولون: {رَبَّنا}.
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }
وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى...}
وهو جمع. والعرب تقول: [قوم] فرادى وفرادُ يا هذا فلا يجُرونها، شبهت بثُلاَث ورُبَاع. وفرادى واحدها فَرْد, وفرِد، وفريد، وفراد للجمع، ولا يجوز فرد فى هذا المعنى. وأنشدنى بعضهم:
ترى النُعَراتِ الزُرْق تحت لَبَانه * فُرَادَ ومثنى أصعقتها صواهِله
وقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ...}
قرأ حمزة ومجاهد (بينُكُمْ) يريد وصلكم. وفى قراءة عبدالله (لقد تقطع ما بينَكم) وهو وجه الكلام. إذا جعل الفعل لبين ترك نصبا؛ كما قالوا: أتانى دونك من الرجال فترك نصبا وهو فى موضع رفع؛ لأنه صفة. وإذا قالوا: هذا دون من الرجال رفعوه فى موضع الرفع. وكذلك تقول: بين الرجلين بين بعيد، وبون بعيد؛ إذا أفردته أجريته فى العربية وأعطيته الإعراب.
{ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }
وقوله: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ...}
والإصباح مصدر أصبحنا إصباحا، والأصباح صُبْح كل يوم بمجموع.
وقوله: {وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} الليل فى موضع نصب فى المعنى. فردّ الشمس والقمر على معناه لما فرق بينهما بقوله: (سكنا) فإذا لم تفرق بينهما بشىء آثروا الخفض. وقد يجوز أن ينصب وإن لم يحل بينهما بشىء؛ أنشد بعضهم:
وبينا نحن ننظره أتانا * معلِّقَ شَكْوةٍ وزِنادَ راع
وتقول: أنت آخذٌ حقَّك وحَقِّ غيرك فتضيف فى الثانى وقد نوَّنت فى الأوّل؛ لأن المعنى فى قولك: أنت ضارب زيدا وضاربُ زيدٍ سواء. وأحسن ذلك أن تحول بينهما بشىء؛ كما قال امرؤ القيس:
فظلّ طُهاة اللحم من بينِ مُنْضِج * صفيفَ شِواءٍ أو قَدِيرٍ معجَّلِ
فنصب الصفيف وخفض القَدِير على ما قلت لك.
{ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ...}
يعنى فى الرحم {وَمُسْتَوْدَعٌ} فى صُلْب الرجُل. ويقرأ (فمستقِرّ) يعنى الولد فى الرحم (ومستودع) فى صلب الرجل. ورفعها على إضمار الصفة؛ كقولك: رأيت الرجلين عاقل وأحمق، يريد منهما كذا وكذا.
{ وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذالِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
وقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ...}
يقول: رزق كل شىء، يريد ما ينبت ويصلح غذاء لكل شىء. وكذا جاء التفسير، وهو وجه الكلام. وقد يجوز فى العربية أن تضِيف النبات إلى كل شىء وأنت تريد بكل شىء النبات أيضا، فيكون مثل قوله: {إنّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} واليقين هو الحقّ. وقوله: {مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} الوجه الرفع فى القنوان؛ لأن المعنى: ومن النخل قِنوانه دانية. ولو نصب: وأخرج من النخل من طلعها قنوانا دانية لجاز فىالكلام، ولا يقرأ بها لمكان الكتاب.
وقوله: {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} نصب, إلا أن جمع المؤنث بالتاء يخفض فى موضع النصب، ولو رفعت الجنات تتبع القنوان كان صوابا.
وقوله: {وَفِى الأَرضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ} الوجه فيه الرفع، تجعلها تابعة للقطع. ولو نصبتها وجعلتها تابعة للرواسى والأنهار كان صوابا.
وقوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} يريد شجرة الزيتون وشجر الرمان، كما قال: {وَاسْأَلَ الْقَرْيَةَ} يريد أهل القرية.
وقوله: {انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} يقول: انظروا إليه أول ما يَعْقِد (وَيَنْعِهِ): بلوغه وقد قرئت (ويُنْعِهِ، ويانِعِهِ). فأما قوله: {ويُنْعِهِ} فمثل نضجه، ويانعه مثل ناضجه وبالغه.
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
وقوله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ...}
المقسمون الكفار. سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالآية التى نزلت فى الشعراء {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها وحلفوا ليؤمنن, فقال المؤمنون: يارسول الله سل ربك ينزلها عليهم حتى يؤمنوا, فأنزل الله تبارك وتعالى: قل لِلذِين آمنوا: وما يشعِركم أنهم يؤمِنون. فهذا وجه النصب فى أنّ؛ وما يشعركم أنهم يؤمنون (وَ) نحن {نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا}، وقرأ بعضهم: (إنها) مكسور الألف (إذَا جَاءَتْ) مستأنفة، ويجعل قوله (وَمَا يُشْعِرُكُمْ) كلاما مكتفِيا. وهى فى قراءة عبدالله: (وما يشعِركم إذا جاءتهم أنهم لا يؤمنون).
و (لا) فى هذا الموضع صِلة؛ كقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}: المعنى: حرام عليهم أن يرجعوا. ومثله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسْجُدَ} معناه: أن تسجد.
وهى فى قراءة أُبَىّ: (لعلها إِذا جاءتهم لا يؤمِنون) وللعرب فى (لعلّ) لغة بأن يقولوا: ما أدرى أنك صاحبها، يريدون: لعلك صاحبها، ويقولون: ما أدرى لو أنك صاحبها، وهو وجه جيد أن تجعل (أنّ) فى موضع لعل.
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }
وقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ...}
هذا أمر قد كانو سألوه، فقال الله تبارك وتعالى: لو فعلنا بهم ذلك لم يؤمنوا {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ}.
وقوله: (قُبُلاً) جمع قبيل. والقبيل: الكفيل. وإنما اخترت ها هنا أن يكون القُبُل فى معنى الكفالة لقولهم: {أَوْ تَأتِى بِاللّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً} يَضْمَنون ذلك. وقد يكون (قُبُلا): من قبل وجوههم؛ كما تقول: أتيتك قُبُلا ولم آتك دُبُرا. وقد يكون القبيل جميعا للقبيلة كأنك قلت: أو تأتينا بالله والملائكة قبيلة قبيلة وجماعة جماعة. ولو قرئت قَبَلا على معنى: معاينةً كان صوابا, كما تقول: أنا لقيته قبلا.
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }
وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ...}
نصبت العدوّ والشياطين بقوله: جعلنا.
وقوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} فإن إبليس - فيما ذكر - جعل فرقة من شياطينه مع الإنس، وفرقة مع الجنّ، فإذا التقى شيطان الإنسىّ وشيطان الجنىّ قال: أضللتُ صاحبى بكذا وكذا، فأضلِل به صاحبك، ويقوله له (شيطان الجنىّ) مثل ذلك. فهذا وحى بعضهم إلى بعض. قال الفرّاء: حدّثنى بذلك حيان عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس.
{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ }
وقوله: {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ...}
الاقتراف: الكسب؛ تقول العرب: خرج فلان يقترف أهله.
{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
وقوله: {مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ...}
من الشاكّين أنهم يعلمون أنه منزل من ربك.
{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }
وقوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ...}
فى أكل الميتة {يُضِلُّوكَ} لأن أكثرهم كانوا ضُلاّلا. وذلك أنهم قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قَتَلتم ولا تأكلون ما قَتَل ربّكم! فأنزلت هذه الآية {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ}.
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
وقوله: {هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ...}
(من) فى موضع رفع كقوله: {لِنَعْلَمَ أىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} إذا كانت (من) بعد العلم والنظر والدراية - مثل نظرت وعلمت ودريت - كانت فى مذهب أىّ. فإن كان بعدها فعل لها رفعتها به، وإن كان بعدها فعل يقع عليها نصبتها؛ كقولك: ما أدرى من قام، ترفع (من) بقام، وما أدرى من ضربت، تنصبها بضربت.
{ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ }
وقوله: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ...}
فأما ظاهره فالفجور والزنى، وأما باطنه فالمخالّة: أن تتخذ المرأة الخليل وأن يتخذها.
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }
وقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ...}
يقول: أكلكم ما لم يذكر اسم الله عليه فسق أى كفر. وكنى عن الأكل، كما قال: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} يريد: فزادهم قول الناس إيمانا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
وقوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ...}
أى كان ضالاّ فهديناه.
وقوله: {نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} يعنى إيمانه.
{ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ }
وقوله: {الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ...}
أى من عند الله، كذلك قال المفسرون. وهو فى العربية؛ كما تقول: سيأتينى رزق عندك، كقولك: سيأتينى الذى عند الله. سيصيبهم الصغار الذى عنده، ولمحمد صلى الله عليه وسلم أن ينزله بهم. ولا يجوز فى العربية أن تقول: جئت عند زيد، وأنت تريد: من عند زيد.
وقد يكون قوله: {صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ} أنهم اختاروا الكفر تعَزُّزا وأنَفَة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل الله ذلك صَغَارا عنده.
{ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }
وقوله: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ...}
[من] ومن فى موضع رفع بالهاء التى عادت عليهما من ذكرهما.
وقوله: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرِجاً) قرأها ابن عبّاس وعمر (حرِجا). وقرأها الناس: حَرَجا. والحرج - فيما فسر ابن عباس - الموضع الكثير الشجر الذى لا تصل إليه الراعية. قال: فكذلك صَدْر الكافر لا تصل إليه الحكمة. وهو فى كسره وفتحه بمنزلة الوحَد والوحِد، والفَرَد والفرِد، والدنَف والدنِف: تقوله العرب فى معنى واحد.
وقوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ} يقول: ضاق عليه المذهب فلم يجد إلا أن يصعد فى السماء وليس يقدر. وتقرأ (كأنما يصَّاعَد) يريد يتصاعد، (ويَصْعد) مخففة.
{ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ }
وقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ...}
يقول: قد أضللتم كثيرا.
وقوله: {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} فالاستمتاع من الإنس بالجنّ أن الرجل كان إذا فارق فاستوحش أو قتل صيدا من صيدهم فخاف قال: أعوذ بسيّد هذا الوادى، فيبيت آمنا فى نفسه. وأما استمتاع الجنّ بالإنس فما نالوا بهم من تعظيم الإنس إيّاهم، فكان الجِنّ يقولون: سُدْنا الجنّ والإنس.