مرض الموت

الساعات الأخيرة من حياة الإنسان ساعات حاسمة ، والموت قد يأتي فجأة وقد يأتي بمرض وتعب ، فما الملابسات التي تحيط بتلك الساعة ؟

إن الأجل أقرب إلى الإنسان من الأمل ، فالإنسان يأمل أن يعيش وأن يصل إلى أرقى المناصب ويحوز المال الوفير ، ويضم إلى ذلك كله الحرص الكبير ، والحرص أهلك أهله ، وأسوأ الناس من عنده طول الأمل ، وينسى مع هذا الحرص الموت وما بعده .

من كرم الله -سبحانه وتعالى- أنه لم يترك الإنسان سدى ، وإنما أعطاه المنهج واضحا وجاء حبيبنا صلى الله عليه وسلم وقال : " تركتكم على البيضاء ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك " .

فأعلمنا أننا موجودون في هذه الدنيا لغاية ثم بعدها نرحل ، كعابر سبيل استراح تحت شجرة ثم راح وتركها ، هذا هو قانون المسلم الحق .

والذين ينظرون إلى الدنيا على أنها هي الغاية هم مضيعون لحياتهم ، والحياة بالنسبة لهم هباء منثور وسوف لن يأخذوا منها إلا ما كتب لهم ، ويظل الحساب يوم القيامة .

إن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ، وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك عادل يحق الحق ويبطل الباطل .

.. / ..

يتبع

ليست الدنيا سوى ممر ومعبر يعبر به إلى الآخرة ، خلقنا فيها لأداء مهمة فمنا المحسن ومنا السيئ ، تماما كما نصف جماعة ركيوا سفينة فوصلت بهم إلى جزيرة وأراد قبطان السفينة أن يستريح ركابها ، فقال اهبطوا على أرض الجزيرة ، ثم تعالوا مسرعين كي يلحق كل إنسان بمكانه ، هنا انقسم الركاب إلى أقسام ثلاثة بعد النزول : قسم سمع كلام الربان ونزل ثم عاد وأخذ مكانه ، وقسم أعجبه جمال الجزيرة وما فيها من أحجار غريبة وفراشات جميلة ونباتات عجيبة فأخذ من هنا ومن هناك ، وجاء هذا القسم متأخرا محملا بالأثقال ، فقال له الربان : أين ستضع هذه الأثقال وأنت ليس لك إلا المقعد الذي تجلس عليه ، اجلس وضع هذه الأحمال عليك ، والقسم الثالث عندما نزل قال : ماهذا الجمال ، أطيار وأشجار ، ونباتات وأزهار ومياه محيطة ، فنسي نفسه ورحل الربان وتركه ، ولله المثل الأعلى .

وهكذا فالله -عز وجل- أنزلنا إلى هذه الأرض كهذه الجزيرة فمنا من إعتبرها ممرا ، ومنا من إعتبرها فرصة لجمع الحلال والحرام على حد سواء ، ومنا من نسي نفسه بالكلية .

../..

يتبع

والله لكي كل شكرا موضوعك مميز بارك الله فيك دمت على هذا المنوال إن شاء الله

ومثال آخر : رجل جاء بأناس يعملون له عملا في البيت ، فوزع عليهم أعمالهم ثم غادرهم وقال : سوف آتي في وقت المغرب لأعطي كل واحد أجره ، فانقسم هؤلاء إلى أقسام ثلاثة أيضا ، منهم من تفرغ لعمله ومنهم من قال أنا سوف آخذ حسابي فصاحب البيت كريم رحيم ، فينام ساعة ويعمل أخرى ، ومنهم من قال أنا سوف آخذ حسابي فلماذا أتعب نفسي ومن الذي يجعلني أشتغل طول النهار ، سأنام حتى يأتي وقت المغرب .

عندما حان وقت الحساب جاؤوا فاكتشفوا أن صاحب العمل ما غادر بيته ، وإنما كان مراقبا لهم ليرى حال من قصر ومن نام ، ولله المثل الأعلى .

فالله أنزلنا في أرضه وتركنا نعمل ، كل على قدر ما هدى رب العباد ، وعلى قدر ما طرق العبد باب الأعمال ، ولما أنزلنا أعلمنا -وهذا من رحمته سبحانه- أننا لسنا هنا بمستقرين (إنك ميت وإنهم ميتون ) "الزمر 30" ، (كل نفس ذائقة الموت) "آل عمران 185" .

إن لله وإن إله راجعون و الحمد الله
مشكورة

الموت حقيقة منسية ، يقر بها كل الناس ، حتى الكافر إذا سألته : إلى أين الرحيل ، يقول : إلى الموت ، قد نختلف معه إلى أين نذهب ، لكنه موقن بهذه الحقيقة .

الموت واحد والأسباب كثيرة ، قد يموت الإنسان فجأة ، وموت الفجأة راحة للمؤمنين وحسرة على الفاجر ، وهو رحمه الله -تبارك وتعالى- وكرم منه ، لأن الله يعلم أن هذا الإنسان لو عاش قد يخف إلتزامه أو تضغط عليه الدنيا فلا يصبر ، أو يبتلى فلا ينجح ، وقد يموت الإنسان بمرض يسمى ( مرض الموت ) ، والمفروض في هذه الساعات أن يجلس الإنسان ليعيد حساباته ويسأل نفسه : ماذا عملت من خير ؟ وما كسبت من شر ؟

المرض مسألة يكرهها الناس ، لكن الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال : ( أحب الجوع والمرض والموت ) وهذه أشياء لا يحبها أحد ، لكنه لما سئل عن مقصوده قال : ( أنا إن جعت رق قلبي ، وإذا مرضت خف ذنبي ، وإذا مت لاقيت ربي) .

ويعن هنا سؤال : لماذا ينفر الناس من الموت ؟ والحقيقة أن قضية الموت ترعب من لا يحب لقاء الله أو من يدعي محبة الله ، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، لو أن إبني مثلا يدرس في بلاد خارج بلادنا وغاب عني سنة أو سنتين فإنك تجدني أحب لقاءه فهو حبيبي وفلذة كبدي ولله المثل الأعلى . فتقول لإنسان : أنت تحب الله ؟ يجيبك نعم ، تريد أن تلقاه ؟ يقول لك : نعم ، تحب أن تموت ؟ يقول لك : لا ، فهذا مدع محبة الله .

ومن كرم الله تعالى أن جعل لنا لقاء به في كل وقت وحين ، عند الصلوات الخمس وعند الجمعة ، وفي رمضان وعند قراءة القرآن وعند ذكره ، لكن أن أترك الدنيا وألقى الله فهذا فيه كلام عند الناس .

../..

يتبع

إن مرض الموت يأتي لينبه الإنسان ، وهنا أريد أن أقول : ليس ملك الموت أقرب إلى المريض منه إلى الصحيح ، فقد تجد إنسانا مريضا يمكن أن يموت ، ولكنه يشفى ويموت الصحيح ، وليس ملك الموت أقرب إلى كبير السن منه إلى صغير السن ، ولذلك من جهل الناس حين يقولون فلان مات فيسأل كم عمره فيقال تسعون سنة ، فيقول الناس هذا هو السبب ، والحقيقة أنه ليس هذا هو السبب وإلا لماذا يموت الطفل الصغير ؟

وتجد بعض الناس يقولون : لو لم يعبر فلان الطريق فداسته السيارة لما مات ، وهذا كلام إنسان قليل الإيمان ، يقول الإمام علي -رضي الله عنه- :

مشيناها خطى كتبت علينا *** ومن كتبت عليه خطى مشاها

ومن كانت منيته بأرض *** فليس يموت في أرض سواها

عندي قصة واقعية رأيتها رأي العين ، منذ ثلاثين عاما كان هناك قطار يأتي من الصعيد إلى القاهرة ، يتوقف في محطة الجيزة -وهي قبل القاهرة- وقبل وصوله إلى المحطة ذات مرة توقف الجميع إلى أن يعبر القطار ، وكان هناك رجل متهور معه سيارة نقل عليها بضائعه فعبر ، وتعطلت السيارة فجأة فوق السكة فأسرع الناس إلى الرجل وأنزلوه من سيارته وقد إرتبك وهو يبكي لأن رأس ماله سيضيع ، ووصل القطار وصدم السيارة فيطير إطار من السيارة ويقع على رأس سائق سيارة أخرى فيموت فورا ، وبهذه الكيفية وبهذه الطريقة لا يستقدم الناس ساعة ولا يستأخرون .

.. / ..

يتبع

قلنا إن مرض الموت يأتي لينبه الغافل ، ذلك أننا نرى أناسا في هذه الدنيا كأنهم الترس في الآلة أو الثور في الساقية ، لذلك قال الإمام علي : " لا يكن أحدكم قطرب نهار جيفة ليل " والقطرب هو ذكر النحل (اليعسوب )

في النهار تجده قويا نشيطا وفي الليل يبيت نائما ، فالمرض يأتي الإنسان دون سابق وعد ليوقظه من غفلته .

هذا المرض لا يخلو من فوائد فهو مغفرة للذنوب يتطهر به الإنسان ، وهو درس للإنسان حتى يبقى ذليلا لعزته سبحانه ، فإن بعض الناس تجدهم إذا كانو ذوي مال وصحة وسطوة تسألهم هل تحتاجون إلى الآخرين ؟ ، يجيبون : لا نحتاج ، وربما يقولون كما قال قارون : " إنما أوتيته على علم " * القصص : 78 * ، وهنا يأتي المرض ليعيد الأمور إلى نصابها والمرض كذلك درس لغير المريض ليتذكر نعمة الصحة والعافية التي أنعم الله تبارك وتعالى بها عليه .



.. / ..

يتبع

انا متتبعة لموضوعك الشيق

واصلي

وللمريض في الإسلام حق على الصحيح هو حق العيادة ، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا لقيته فسلم عليه وإن أصابه خير فهنئه وإن أصابته مصيبة فعزه ، وإن عطس فحمد الله فشمته ، وإن مرض فعده ، وإن مات فشيع جنازته (

ولعيادة المريض في الإسلام آداب لابد أن يتأدب بها الصحيح ، أما ما نسمعه من قول كثير من الناس عندما يمرض إنسان بأن هذا كان بسبب أعماله والمعاصي التي كان يرتكبها ، فهذا سوء أدب العبد ، وهذا ظلم من المسلم لأخيه المسلم .

وإذا زار المسلم أخاه المريض فليكن حسن اللفظ ، خفيف الظل ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ( إذا زرتم المريض فنفسوا له في أجله فإن هذا لا يرد من قضاء الله شيئا ولكنه يطيب نفس المريض ) ، والعجيب أني وأنا أقرأ في تاريخ الوقف الإسلامي وجدت وقفا يسمى " وقف إيناس المرضى " وهو أن يأتي جماعة من الأغنياء بأناس ينفسون عن المرضى فيقولون لهم شعرا جميلا وكلاما طيبا ، ويحكون لهم حكايات عن الأمل ، ويتقاضى بعدها هؤلاء الناس أجرهم من الوقف ، وهذا من رحمة الإسلام .

.. / ..

يتبع

وإذا جلس المسلم أمام أخيه المريض بدأ برقيته الشرعية فيضع يده على العضو الذي يؤلمه ويدعو بما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول " اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما" ، " اللهم كما رحمتك في السماء أنزل رحمتك على الأرض وأنزل على هذا المريض رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك " أو يضع الإنسان سبابته على فمه ثم يضعها على الأرض ثم يضعها على الجزء المريض ثم يقول : بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا ، ويقول كذلك : بسم الله (ثلاث مرات) أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما تجد وما تحاذر.

ويستطيع الإنسان أن يرقي نفسه إذا لم يأت من يزوره بأن يضع يده اليمنى على العضو الذي يؤلمه ويقول : بسم الله (ثلاث مرات) أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وما أحاذر ، هذا هو ما يجب على المسلم أن يفعله إذا كان مريضا.

وأختم كلامي في هذا الموضوع بقولي أنه لابد على الناس من ذكر الموت ، فإن الإنسان إذا فعل هذا عجل في التوبة وسارع وسابق إلى الخيرات وإلى مغفرة من الله وجنة عرضها السماوات والأرض ، كالمسافر الذي يريد السفر فتجده يسارع إلى تجهيز حقيبته وأغراض سفره (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) البقرة 197 .



منقول من كتاب الوعد الحق للدكتور عمر عبد الكافي

من الصفحة 21 إلى الصفحة 26

جزاك الله خيرا