مقدمة
تولي الأمم اهتمامها البالغ بالمحافظة على تراثها الفكري ومقومات حضارتها ، والأمة الإسلامية أحرزت قصب السبق في عنايتها بتراث الرسالة المحمدية التي شرفت بها الإنسانية جمعاء ، لأنها ليست رسالة علم أو إصلاح يحدد الاهتمام بها مدى قبول العقل لها واستجابة الناس إليها ، وإنما هي ـ فوق زادها الفكري وأسسها الإصلاحية ـ دين يخامر الألباب ويمتزج بحبات القلوب ، فنجد أعلام الهدى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم يضبطون منازل القرآن آية آية ضبطا يحدد الزمان والمكان ، وهذا الضبط عماد قوي في تاريخ التشريع يستند إليه الباحث في معرفة أسلوب الدعوة ، وألوان الخطاب ، والتدرج في الأحكام والتكاليف ، ومما روى في ذلك ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه : " والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت ؟ ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت ؟ ولو أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه " (1)
والدعوة إلى الله تحتاج إلى نهج خاص في أسلوبها إزاء كل فساد في العقيدة والتشريع والخلق والسلوك ، ولا تفرض تكاليفها إلا بعد تكوين النواة الصالحة لها وتربية اللبنات التي تأخذ على عاتقها القيام بها ، ولا تسن أسسها التشريعية ونظمها الاجتماعية إلا بعد طهارة القلب وتحديد الغاية حتى تكون الحياة على هدى من الله وبصيرة.
والذي يقرأ القرآن الكريم يجد للآيات المكية خصائص ليست للآيات المدنية في وقعها ومعانيها ، وإن كانت الثانية مبنية على الأولى في الأحكام والتشريع .
عناية العلماء بالمكي والمدني
فحيث كان القوم في جاهلية تعمي وتصم ، يعبدون الأوثان ، ويشركون بالله ، وينكرون الوحي ، ويكذبون بيوم الدين ، وكانوا يقولون : ( أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون 16) ( ـ الصافات) ( ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) (14ـ الجاثية) وهم ألداء في الخصومة ، أهل مماراة ولجاجة في القول عن فصاحة وبيان ـ حيث كان القوم كذلك نزل الوحي المكي قوارع زاجرة ، وشهبا منذرة ، وحججا قاطعة ، يحطم وثنيتهم في العقيدة ، ويدعوهم إلى توحيد الألوهية والربوبية ، ويهتك أستار فسادهم، ويسفه أحلامهم، ويقيم دلائل النبوة ، ويضرب الأمثلة للحياة الآخرة وما فيها من جنة ونار ، ويتحداهم ـ على فصاحتهم ـ بأن يأتوا بمثل القرآن ، ويسوق إليهم قصص المكذبين الغابرين عبرة وذكرى ، فنجد في مكي القرآن ألفاظا شديدة القرع على المسامع ، تقذف حروفها شرر وألسنة العذاب ، فكلا الراجعة الزاجرة ، والصاخة والقارعة ، والغاشية والواقعة ، وألفاظ الهجاء في فواتح السور ، وآيات التحدي في ثناياها ، ومصير الأمم السابقة ، وإقامة الأدلة الكونية ، والبراهين العقلية ـ كل هذا نجده في خصائص القرآن المكي.
وحين تكونت الجماعة المؤمنة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ، وامتحنت في عقيدتها بأذى المشركين فصبرت وهاجرت بدينها مؤثرة ما عند الله على متع الحياة ـ حين تكونت هذه الجماعة ـ نرى الآيات المدنية طويلة المقاطع ، تتناول أحكام الإسلام وحدوده ، وتدعو إلى الجهاد والاستشهاد في سبيل الله ، وتفصل أصول التشريع ، وتضع قواعد المجتمع ، وتحدد روابط الأسرة ، وصلات الأفراد ، وعلاقات الدول والأمم ، كما تفضح المنافقين وتكشف دخيلتهم ، وتجادل أهل الكتاب وتلجم أفواههم ـ وهذا هو الطابع العام للقرآن المدني .
وقد عنى العلماء بتحقيق المكي والمدني عناية فائقة ، فتتبعوا القرآن آية آية ، وسورة سورة ، لترتيبها وفق نزولها ، مراعين في ذلك الزمان والمكان والخطاب ، لا يكتفون بزمن النزول ، ولا بمكانه ، بل يجمعون بين الزمان والمكان والخطاب ، وهو تحديد دقيق يعطي للباحث المنصف صورة للتحقيق العلمي في علم المكي والمدني ، وهو شأن علمائنا في تناولهم لمباحث القرآن الأخرى .
إنه جهد كبير أن يتتبع الباحث منازل الوحي في جميع مراحله ، ويتناول آيات القرآن الكريم فيعين وقت نزولها ، ويحدد مكانه ، ويضم إلى ذلك الضوابط القياسية لأسلوب الخطاب فيها ، أهو من قبيل المكي أم من قبيل المدني ؟ مستعينا بموضوع السورة أو الآية ، أهو من الموضوعات التي ارتكزت عليها الدعوة الإسلامية في مكة أم من الموضوعات التي ارتكزت عليها الدعوة في المدينة ؟
وإذا اشتبه الأمر على الباحث لتوافر الدلائل المختلفة رجح بينها فجعل بعضها شبيها بما نزل في مكة ، وبعضها شبيها بما نزل في المدينة .
وإذا كانت الآيات نزلت في مكان ثم حملها أحد من الصحابة فور نزولها لإبلاغها في مكان آخر ضبط العلماء هذا كذلك ، فقالوا : ما حمل من مكة إلى المدينة ، وما حمل من المدينة إلى مكة .
قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري في كتاب التنبيه على فضل علوم القرآن : " من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته ، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة ، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي ، وما نزل بمكة في أهل المدينة ، وما نزل بالمدينة في أهل مكة ، وما يشبه نزول المكي في المدني ، وما يشبه نزول المدني في المكي ، وما نزل بالجحفة ، وما نزل ببيت المقدس ، وما نزل بالطائف ، وما نزل بالحديبية ، وما نزل ليلا ، وما نزل نهارا ، وما نزل مشيعا (2) ، وما نزل مفردا ، والآيات المدنيات من السور المكية ، والآيات المكيات في السور المدنية ، وما حمل من مكة إلى المدينة ، وما حمل من المدينة إلى مكة ، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة ، وما نزل مجملا ، وما نزل مفسرا ، وما اختلفوا فيه ، فقال بعضهم مدني وبعضهم مكي ، فهذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى"(3).
وحرص العلماء على الدقة ، فرتبوا السور حسب منازلها سورة بعد سورة ، وقالوا سورة كذا نزلت بعد سورة كذا ، وازدادوا حرصا في الاستقصاء . ففرقوا بين ما نزل ليلا وما نزل نهارا ، وما نزل صيفا وما نزل شتاء ، وما نزل في الحضر وما نزل في السفر.