بسم الله الرحمن الرحيم
آداب المحدث
تصحيح النية من طالب العلم متعيّن ، فمن طلب الحديث للمكاثرة أو المفاخرة أو ليروي أو ليتناول الوظائف ، أو ليثني عليه وعلى معرفته فقد خسر، وإن طلب لله وللعمل به ، وللقربة بكثرة الصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم ولنفع الناس فقد فاز وإن كانت النية ممزوجة بالأمرين فالحكم للغالب . وإن كان طلبه لفرط المحبة فيه ، مع قطع النظر عن الأجر وعن بني آدم فهذا كثيراً ما يعتري طلبة العلوم فلعل النية أن يرزقها الله بعد .
وأيضاً من طلب العلم للآخرة كساه العلم خشية لله واستكان وتواضع ، ومن طلبه للدنيا تكبَر به وتكثر وتجبَر وازدرى بالمسلمين العامة ، وكان عاقبة أمره إلى سِفالٍ وحقارة . فليحتسب المحدِّث بحديثه ، رجاء الدخول في قوله صلى الله عليه وسلم (( نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ، ثم أدّاها إلى من لم يسمعها )) .
وليبذل نفسه للطلبة الأخيار لا سيما إذا تفرد وليمتنع مع الهرم وتغيُّر الذهن ، وليعهد إلى أهله وإخوانه حال صحته : أنكم متى رأيتموني تغيّرت فامنعوني من الرواية . فمن تغير بسوء حفظً وله أحاديث معدودة قد أتقن روايتها فلا بأس بتحديثه بها زمن تغيُّره . ولا بأس بأن يجيز مروياته حال تغيره ، فإن أصوله مضبوطة ما تغيرت ، وهو فقد وعي ما أجاز ، فإن اختلط وخرِف امتُنع من أخذ الإجازة منه .
ومن الأدب : أن لا يحدث مع وجود من هو أولى منه لسنِّه واتقانه ، وأن لا يحدث بشيء يرويه غيره أعلى منه وأن لا يغش المبتدئين بل يدلهم على المهم فالدين نصيحة . فإن دلهم على معمر عامي وعلم قصورهم في إقامة مرويات العامي نصحهم ودلهم على عارف يسمعون بقراءته ، أو حضر مع العامي وروى بنزولٍ ، جمعاً بين الفوائد .
وروي أن مالكاً – رحمه الله – كان يغتسل للتحديث، ويتبخر ، ويتطيب ، ويلبس ثيابه الحسنة ، ويلزم الوقار والسكينة ، ويزبُرُ من يرفع صوته ، ويرتل الحديث .
وقد تسمح الناس في هذه الأعصار بالإسراع المذموم الذي يخفى معه بعض الألفاظ ، والسماع هكذا لا ميزة له على الإجازة ، بل الإجازة صدق ، وقولك : سمعت أو قرأت هذا الجزء كله - مع التمتمة ودمج بعض الكلمات - كذبٌ .
وقد قال النسائي في عدة أماكن من صحيحه :
(( وذكر كلمة معناها كذا وكذا .. )) .
وكان الحُفاظ يعقدون مجالس للإملاء ، وهذا قد عُدم اليوم والسامع بالإملاء يكون مُحققاً ببيان الألفاظ للمسمع والسامع .
وليجتنب رواية المشكلات ، مما لا تحمله قلوب العامة ، فإن روى ذلك فليكن في مجالس خاصة .
ويحرم عليه رواية الموضوع ورواية المطروح إلا أن يبين للناس ليحذروه .
والحمدالله رب العالمين .
من كتاب الموقظة للحافظ الذهبي المتوفى سنة 748هـ ..